Friday, February 21, 2014

عن رحيل الشاعر المكسيكي باتشيكو: صندوق الشاعر الذي سيُفتَح بعد مئة عام.


 "صحيحٌ أن الموتى أيضًا لا يدومون، 
ولا حتّى الموت يبقى.
كلّ شيءٍ ينتهي لأن يكون غبارًا.

ولكنّ الكهفَ حفِظَ قبورَه.

هنا، يتراصّ
كلُ واحد ومعه ما يميّزه.
العظام هي مالكة التاريخ السريّ.

هنا نعرف ما هو طعم الموت
هنا نعرف ما يعرفه الموت
الحجر وهبَ حياةً لهذا الموت
الحجر أصبح حمم من الموت.

كلُّ شيء ميّت،
في هذا الكهف، لايعيشُ حتّى الموت". *

تركت روح خوسيه إيميلو باتشيكو هذا العالم في السادس والعشرين من الشهر الماضي. باتشيكو المكسيكي مولدًا وهوىً، عبرت روحه خفيفة تاركة في نفوس من عرفه ثقل الموت الذي يخطف من نظنّ أنّه سيستثنيهم. وُلد باتشيكو في يونيو 1939 في مكسيكو سيتي، وأمضى بها معظمَ الأربع وسبعين سنة التي قضاها على هذه الأرض. كتبَ الشعر كما يتنفس والمقال كما يفكّر وحكي حكايات له وترجم عن آخرين. يعتبره النُقّاد من أهم أدباء القرن العشرين ويعتبره المكسيكيون رمزًا مهمّا وملهمًا لهم. مصدر هذا الإلهام ليس فقط كون باتشيكو كان شاهدًا على مراحل مهمّة في تاريخ بلدهم –البعيدة عنّا-، ولكن لأن باتشيكو كان يتحيّز في الأساس لكل ماهو عاديّ ويوميّ. كان يتحيّز لهم.
عندما بدأ نيكانور بارّا في النصف الأوّل من القرن الماضي ما أسماه حركة اللا شعر، كان يريد أن يخلقَ قصيدة قريبة من الرجل العاديّ، لا تضمّ بين أبياتها الزخرفات اللغويّة المبالغ فيها؛ بعبارة أخرى، كانَ يُريد تأسيس قصيدة تنحاز للجمال في العاديّ وليس الاستثنائيّ. وأخذ باتشيكو عنه هذا الحماسة نحو الجمال في العاديّ وقبل كل شيء نحو القاريء العاديّ. عند باتشيكو، لا جماليّات تُفقد النص فطريته. أراد أن يخلقَ قصيدة يحفر بها طريقًا في غابات الفن الموحشة التي لا يطرقها سوى النخب. في جنازته، حضر رموز السياسة والثقافة، ولكن حضر أيضًا رجال من هؤلاء الذين أحبّهم دون أن يعرفهم، وضعوا أكاليل على نعشه وانصرفوا صامتين.
منذ أن بدأ باتشيكو رحلته نحو عالم الأدب قبل ستّين عامًا من وفاته لم يتوقّف أبدًا عن الكتابة والتعديل والترجمة؛ لم يتركَ مجالا إلا وخاضه؛ كتبَ شعرًا ومقالا ونقدًا ورواية وقصّة قصيرة. لم يتوقف عن الكتابة، كما لم يتوقف عن القراءة وعن المشاركة في الحياة الأدبيّة بكلّ ما تحمله له. أسس مجلات ورأس الكثير وكتب في أكثر. نشر أربعة عشر كتابًا، وفي عام 2000 نشر كتاب "متأخرّا أو قبل الميعاد" الكتاب الذي يضم ست كتب الشعر الأولى في إنتاجه: "عناصر الليل"، "سكون النيران"، "لا تسألني كيف يمر الزمن"، "ستذهب ولن تعود"، جزرٌ على الجُرف"، "منذ ذلك الوقت"- ولحقهم "أعمال البحر"، "أنظرُ إلى الأرض"، "مدينة الذكرى" – ومجلّد لأعماله الشعريّة يضم مقاربات يخصصها لشعراء آخرين كعزرا باوند وإليوت. له روايتان: "ستموت بعيدًا" و"معارك الصحراء" – وله ثلاث مجموعات قصصيّة: "دم ميدوسا" و"الريح البعيدة" و"أوّل السعادة". ترجمَ  إلى الإسبانيّة أعمالا لتي إس إليوت وصمويل بيكيت وتينيسي ويليامز وأوسكار وايلد، وشارك في وضع موسوعات للشعر. ونال في حياته ما يستحق من التكريم: جوائز عديدة أهمّها جائزة "ثيربانتس" في 2009 وهي الجائزة الأهم التي تمنح لكاتب يكتب بالإسبانيّة، وجائزة الملكة صوفيا للشعر الإيبيروأمريكي. كرمته بلده المكسيك أكثر من مرّة؛ وأقيم حفل وداعه في المدرسة الوطنيّة التي ظلّ عضوًا فيها منذ عام 1986 وحتّى وفاته.



"نحن هنا، لأن من سبقونا قد اختفوا. ونحن نذهب حتّى يحتلّ آخرون أماكننا".

ولد باتشيكو في العام الذي نشبت فيه الحرب العالميّة الثانيّة، الإرث الإنساني الثقيل الذي يحمله كلّ البشر. وهو نفس العام الذي انتهت فيه الحرب الأهليّة الإسبانيّة، الإرث الآخر الأثقل على أكتاف كتّاب أمريكا اللاتينية تحديدًا. لم يكن قد مرّ وقتٌ طويل على استقلال دول أمريكا الجنوبيّة، ولكنّه كان كافيًّا لكي تبدأ ملامح كلّ بلد في التشكّل. صراع خلق هويّة "لنا". هوسٌ بالعودة لأدبيات بدايات الإستعمار، وهوسٌ بالتمجيد في هذا البلد الذي عليه أن يُصبحَ وطنًا. التشبثُ بالتاريخ والتعلّق بالتراث. وحيث يتغنّى الجميع بالوطن الجميل، يقتحم القرن العشرون المشهد بمدنيته. مدنٌ جديدة كثيرة وكبيرة. التمدن يطلّ برأسه ويدفع بالجميع إلى تروس آلة العمل. تتغيّر نظرة المرء نفسه وإلى الوقت، كيفَ يمرّ؟ الأرض فقدت ملمحها الرعوي وفقدت صفات ألوهتها وانضمام الكلّ حولها. لكنّ أحدًا أيضًا لم يجد العزاء في المدينة الصاخبة. لكنّ حركات الفن الطلائعيّة بنظرتها النقديّة للتاريخ تركت متنفسّا لفنٍ جديد يفرض نفسه بعيدًا عن تراثيات العصور القديمة. وباتشيكو ورثَ كلّ هذا.
يتأرجع شعر باتشيكو بين ما هو فلسفيّ تأمليّ وبين ما هو نقديّ وساخر. طغت النبرة الفلسفية على بدايات أعماله، "عناصر الليل" و "سكون النيران". يجاورُ التاريخُ الزمن؛ في ثِقَلُه ومروره، في الأطلال التي يتركها خلفه، في هشاشة ما يفعل الإنسان. والتاريخ؛ زورُه ومغالطاته، ما خفي عنّا فيما وصَلَنا والدمار والجرائم؛ إرثنا المشترك. يقول في "عناصر الليل":

لا شيءَ يُستعاد، لا شيء يمنح
الخُضرة إلى الوديان المتفحمّة،
ولا الماء في منفاه
سيعود إلى المنبع،
ولا عظام النسرِ
ستعود إلى أجنحته.

الزمن هو الموضوع الأساسي الذي يشغل باتشيكو. بأسلوبه الشعبيّ والحواريّ، الواضح والمضادّ للبلاغة المفرطة، يحلل في كلّ قصيدة ملمحًا ممّا هو يوميّ، جامعًا في أبيات قصيرة قيم الإنسان الأخلاقية والإجتماعيّة. كيف يمر الزمن؟ لماذا؟ الزمن الذي يشغلنا بأشياء صغيرة، وفي غفلة منّا، تكبر، وتذهب إلى نهايتها. والمدينة التي تبتلع الجميع في دوامات حركتها. في "لا تسألني كيف يمرّ الزمن" يقول:

افتح ذاك الباب
أضيء النور. اقترب. الوقت متأخّر.
لكنّ الوقت المناسب لا يأتي. لم يصل.
سنذهب. تأخّر الوقت. لقد تأخرنا جدّا.
لدينا وقتٌ على الرغم من هذا. اليوم أو غدًا.
صافحني. لا تُرى. ظُلمة.
أعطني يدك من فضلك. أراكَ لاحقًا.
المدينة المتسارعة ترزح بهشاشتها فوق أرواح قاطنيها. لا أحد يرى أحدًا. لا وقت للرؤيّة. نحنُ دائمًا متأخرّين، وعلينا اللحاق بما تأخرّنا عليه. نلهث، ونركض من موقع لموقع، ونترك أرواحنا دون أن تتصافح، يحول بينها اغتراب المكان. كلّ شيء يحدث بسرعة أكبر من قدرتنا على الإدراك. ما يستحق الوقوف عنده، يستحق اقتناصه؛ إن ضاع اليوم قد لا نملك الغد. في موضع آخر من ذات الكتاب يقول:

كما الرموز التي تمرُّ عبر شاشة التليفزيون
وتختفي، هكذا مرّت حياتي
كما السيارات التي تمرّ مسرعة على الطُرُق
تصاحبها ضحكات الفتيات وموسيقى الراديو.
الجمال مرّ سريعًا، كنماذج
السيّارات الخاصّة بالعرض
وكأغاني الراديو التي أصبحت موضة قديمة.

تتراجع الطبيعة من شعر باتشيكو تدريجيّا وتتركَ مكانها لمفردات المدينة. للسيّارات السريعة وأغاني الراديو التي تتحوّل لموضة فائتة. ويتراجع اليقين في العدل مع كلّ هذا الظُلم الذي مرّ على الأرض. "لا تسألني كيف يمرّ الوقت" هو في الحقيقة أسئلة عن موقع الإنسان في هذه الحياة التي صنعها، عن أيّامه التي تمضي غير عابيء بها، وعن الاغتراب في وسط كلّ هؤلاء البشر.



خيانة عظمى

يُحبّ شباب المكسيك قصيدة باتشيكو المعنونة "خيانة عظمى". يحفظونها ويرددونها. تقول القصيدة:

لا أحبّ وطني
مجده المجرّد
يراوغني
ولكن (وهذا يبدو سيئًا)
قد أهب حياتي
لعشرة أماكن يمتلكها،
لأناسٌ بأعينهم،
لموانيء، لغابات صنوبر،
لحصون،
لمدينة محطمّة،
رماديّة، موحشة،
لعديد من رموز تاريخها،
لجبال،
ولثلاثة أو أربعة أنهار.

ماذا يقصد باتشيكو بـ "مدينة محطمّة"؟ هل يقصد المدن التاريخية في المكسيك التي انهارت؟ هل يقصد المدنَ التّي دمرتّها الحروب؟ أم هل يقصد المدينة الجديدة الرماديّة من عوادم مصانعها وسيّاراتها؟ سيحتاج القاريء أن يقرر في أي بلد يقف وهو يقرأ القصيدة، في أي زمنٍ، سيحتاج أن يعلنَ انتماءه لبلد واحدة على الأقل، ومن ثم يبحث عن مدنها المحطمّة ويفسرّها. لكنّ باتشيكو كان يحبّ بلده. ربمّا لا يحبّ ما يروّجونه عنها. لا يحب ما يريد منه الآخرون أن يعرفَ عنها. يغلق عينيه دون البهاء والنور المُطلقين، ويصبو نحو الهامش، نحو العاديّة. يتطلّع إلى الأشياء التي يُكسبه وجودها وجودًا، ويشعر معها بالانتماء.
وباتشيكو كان محبّاً لبلده ومحبّا للكتابة، فاختار أن يكون شاهدًا على تاريخها؛ أن يكتبه. في قصيدة له بعنوان "إلى من يهمّه الأمر"، يوضّح علاقته بالكتابة فيقول:

بالنسبة لي، تهمني فقط الشهادة
على لحظة مراوغة، الكلمات
التي تُشبه في تدفقها الزمن في طيرانه
الشعر المرجوّ مثل اليوميّات
لا يوجد فيها غاية ولا وسيلة.

التوثيق إذن كان شاغله ومحرّكه. أراد أن يوثّق بلغة المرءِ العاديّ ما شهده. أراد أن يضمَّ التاريخ المخفيّ في شعره. وفعل. خصص حياته كلّها للكتابة، وكتب عمّا استطاع. والتاريخ يكرر نفسه؛ تتكرر مشاعر صانعيه، أحلامهم، همومهم، انتصاراتهم وهزائمهم. لذلك، سيمكن قراءة باتشيكو في أي وقت وفي أي مكان، وسيجد القاريء دومًا عنده، بلغة قريبة إليه، ما يشغل باله. الشعر عنده كان قول المألوف بجمال، وقصر الجمال على ما يحتاجه.



"كلّ شيٍ يمضي"
إن كان شعر باتشيكو يميّزه الاقتصاد في العناصر التجميليّة وارتباطه الاجتماعي ببلده، وارتعاشته بين الزمن والموت، فإن أعماله الروائية تتميّز في المقابل بتجريب بنيات وتقنيّات سرد جديدة. تشغله عند الحكي مواضيع تميّز فترة الطفولة وضياعها، والعلاقات الإنسانية. ولكنّ وطنه يعود هنا ويظهر هنا مرّة أخرى. باتشيكو كان شديد الارتباط ببلده وبواقعها وبتاريخها، وينطلق منها للكتابة؛ وحتّى للحياة. عُرف عنه تعلّقه بالناس، واستعداده لخدمة من يطلب. خصص حياته كلّها للحكاية التي لا تنتهي: الكتابة، وإعادة الكتابة.
في عام 1981 نشر رواية "معارك الصحراء"، والتي يعيد فيها خَلْق مكسيك عام 1948. العام الذي أعلنت فيه إسرائيل وجودها، ودخل الشرق الأوسط مرحلة الصراع المباشر. نفس العام يشكّل فترة مهمّة في تحوّل المكسيك من القرويّة إلى المدينيّة. في الرواية، كارلوس، ذو الثمانية أعوام، يحبّ أمّ صديقه الشابّة: ماريانا. يعرف الجميع قصّة حبّه المستحيلة فيتحوّل الأمر لفضيحة وتختفي الأم. يقولون إنّها انتحرت، وتنتهي الرواية بمشهد انتهاء عالمٍ:

"يهدمون المدرسة، يهدمون مبنى ماريانا، يهدمون منزلي، يهدمون حي لا كولونيا روما. تنتهي هذه المدينة. انتهى هذا البلد. لا يذكر أحد مكسيك تلك السنوات. ولا أحد يهتمّ: وسط هذا الرعب، من يمكنه أن يشعر بالحنين. كلّ شيء يمضي كما تتغيّر الأسطوانات في صندوق الموسيقى. لن أعرفَ أبدًا إن كانت ماريانا قد عاشت أصلا. لو عاشت، سيكون لديها الآن ستّين سنة".

البراءة المفقودة. المجتمع المزدوج. التظاهر بالدفاع عن الأخلاق. التاريخ الضائع. الذكريات الممحوّة. الحنين. كلّها مفرّدات شكلّت الرواية، وشكلّت قبلها ذاك العصر الذي يحاول باتشيكو إعادته للوجود.
***


"الزمن الذي يدمّر كلّ الأشياء"
حاوَل باتشيكو في شعره أن يقتنص اللحظة، يمسكها، يسجلّها بكلمات تحفظها من أن تضيع وسط صخب المدينة وزيف التاريخ ومرور الزمن. حاول أن يوقف قليلا عقارب الساعة ليتأمّل في قيمة لحظات تتوه منّا. أراد أن يترك ذكرى. أراد أن يقتنص الجمال دون أن يقع في فخ الانبهار. ووصل في النهاية إلى المساحة، التّي يُدرك فيها فيمة ما يذهب فيقترب منه، فيقوى ويزداد وجودًا وحضورًا.

في الموسم الأخير
كل الأشياء
تُظهر
فضيلتها في التغيّر
في عدم البقاء
كلّ شيء ينتهي
ويودّعنا
يقول لنا العالم:
"أنت لم تعد تنتمي إلى هنا،
لم نعد نعرّفك
كواحدٍ منّا
ما اعتقدتَ أنّه ملكك؛
كان قرضًا
الآن
عليك إرجاعه".

في شعر باتشيكو لا يوجد حُزن، بل ذاكرة نقديّة. "موضوعي الوحيد هو ما لم يعد موجودًا/ وهوَسِي اسمُه ‘المفقود’ / جوقتي النابضة لا شيء آخر / وعلى الرغم من هذا أحبّ التغيير الدائم / هذه الثواني المختلفة الواحدة تلو الأخرى / لأن بدونها ما نسمّيه الحياة/ سيصبح من الحجارة".
*****
في مركز ثيربانتس في مدريد، صناديق سريّة، يترك فيها مشاهير الثقافة الإسبانية وعظماؤها – باختيارهم- تذكارات؛ ولا تُفتح هذه الصناديق إلا في الموعد الذي يختاره المُودِع. في إبريل 2010، تَرَك باتشيكو هناك تذكارا، وطلب أن يُفتح صندوقه بعد مائة عام. قال: " تركتُها حتّى يعرف من يفتح هذا بعد مائة عام من كنتُ؛ لإنني لا أعتقد أن أحدًا سيتذكّر أعمالي".
***
هل سيهمنا شعر باتشيكو المحب لوطنه البعيد عنّا؟
لنختم المقال بواحدة من ثلاث قصائد كانوا آخر ما نشر باتشيكو في مجلّة جامعة المكسيك الوطنيّة في 2009. القصيدة عنوانها "المشرحة"، وستجيب وحدها على السؤال عن عالميّة الشعر ووحدته. كلّنا هنا في نفس الجحيم، كلنّا لدينا نفس المخاوف. باتشيكو كان يخشى النسيان؛ كلّنا نخشى النسيان.

الجوّ ليس حارًا في هذه المنطقة من الجحيم.
لقد عاد الموتى إلى عصر الجليد

ربما، لو تركناهم هنا،
سيعودون خالدين

مرعبة الحياة من فوق قبّة الموت.

أمن أجل هذا وُلدنا؟
نتسائل
مع تدنيس المشرحة ووضع
لافتة تحذير في الجثث

ربمّا يُساء فهم هذا:
من الرحمة
ما تظهره وجوههم الغاضبة.

 _______________

كل الاقتباسات في المقال لباتشيكو
  ****
نُشِر في أخبار الأدب الأحد 16 فبراير.

الإنفلونزا - خوان خوسيه ميّاس

تأتي الإنفلونزا من آسيا، الأشباح من الدولاب، والرعب من الظلال. الإنفلونزا تتصاعد تدريجيًّا. ذات يوم، بعد الأكل، تبدأَ في النظر إلى الأشياء بغرابة معيّنة. يبدو لك زملاء العمل كما لو كانوا يتحركون بسرعة مفرطة؛ بالإضافة لذلك، هم لا يشعرون بالبرد، بينما أنت، منذ ساعتين أو ثلاث، تشعر في ظهرك – غير المأهول عادة – بحركة خاصّة، كما لو أن أحدهم قد فتح نافذة عند كليتيك. أثاث المكتب معتم؛ لا يتواصل أبدًا إلا بقدر الحاجة. في الشارع، يجذبُ العربات والناس ثِقَلا مميتًا. كأنّهم مُدارون على البعد بواسطة ميكانيكيّ قليل المهارة. غالبًا، أنت لم تعرف بعد أنّ لديك حمّى، لكن الأكيد أن مفاصل جسدك قد بدأت في إرسال إشارات خفيفة تنذر عن كارثة، يتم ترجمتها إلى حالة نفسيّة تميل إلى اللا مبالاة. قبل النوم، تنكمش على نفسك في سعادة وتخبرك زوجتك أنّك ساخن جدّا. أنت ساخن. وغدًا، لديك موعدٌ هامّ، وتُسعدك فكرة أن هذا الموعد الهام لا يُهمك إطلاقًا، كباقي تفاصيل الواقع.

عظامك حتّى الآن لا تؤلمك لدرجة تمنعك من التفكير فيما ستقرأ. ثلاثة أيام في السرير تعني روايتان. بمجرّد أن تبدأ في النوم، تنتبه بعض الشيء . تسترجع أحداث الأسبوع ويُدهشك شغفك بمتعٍ سخيفة، هالكة. تنام وتحلم بخطوات أمّك في الرواق. أنت طفلٌ والعالم لا يعتمد عليك. يمكنك أن تصبح غير مسؤول وهو ما يمنحك لسعة من السعادة. تنكمش أكثر على نفسك وتلاحظ أصابع أمّك على جبهتك.

شيءُ هكذا لا يمكن أن يأتي من آسيا؛ لا بُدّ أن يكون نابعًا من أعماق المرء نفسه. كلأشباح التي تبدو خارجة من الدولاب، وكالرعب الذي يبرز من الظلال.

Wednesday, February 12, 2014

أيّها السائر لا توجد طريق .. الطريق يصنعها سيْرُك

كُلُّ شيءٍ يمر، وكلُّ شيءٍ يبقى،
لكنّ طريقتنا أن نمضي،
نمضي صانعين طرقًا
لكنّها طرقٌ فوق البحر

أبدًا لم أطلب مجدًا
ولا أن أترك في ذاكرة الرجال
أغنيتي؛
أحب العوالم الخفيفة
عديمة الوزن الرقيقة
كفقاعات الصابون

أحبُّ أن أراها تتلوّن
بلون الشمس والنبيذ، تطير
تحت السماء الزرقاء، ترتجف
فجأة، ثم تتلاشى

أبدًا، لم أطلب مجدًا

أيّها السائر، آثار قدميك
هي وحدها الطريق؛
أيّها السائر، لا توجد طريق
الطريق يصنعها سيْرُك

بالمشي، تتكوّن الطريق
وإذا نظرتَ خلفك
ترَى الدرب الذي
لن تخطو عليه أبدًا مرّة أخرى

أيّها السائر، لا توجد طريق
لكنّها علامات فوق البحر

منذ وقت مضى، في هذا المكان
حيث ترتدي الغاباتُ الآن شوكًا
سُمع صوتُ شاعرٍ يصرخ:
"أيّها السائر، لا توجد طريق،
الطريق يصنعها سيْرُك"

ضربةً فضربة، بيْتٌ فبيت

مات الشاعر بعيدًا عن وطنه،
غطّاه ترابُ بلدٍ قريب
عندما ابتعدوا، رأوه يبكي
"أيّها السائر، لا توجد طريق،
الطريق يصنعها سيْرُك"

ضربة فضربة، بيتٌ فبيت

عندما لا يستطيع الحسّون الغناء
عندما يصبح الشاعر حاجّا
عندما لا تفيدنا الصلاة بشيءٍ
"أيّها السائر، لا توجد طريق،
الطريق يصنعها سيْرُك"

ضربة فضربة، بيت فبيت
----
أنطونيو ماتشادو
لقلبي، سيكفي صدرُكِ،
لحريتي، ستكفي أجنحتي.
من فمي يصل إلى السماء
كلُ ما كان جاثمًا فوق روحك.

فيكِ أنتِ وهمُ كلّ يوم
تصلينَ مثلما يصل الندى إلى تويجات الزهور
تهدمين الأفق بغيابِك.
وللأبد تتسرّبين كالموجة.

قلتُ إنّكِ تُنشدَين في الريح
مثل الصنوبر، ومثل الصواري
مثلهم، طويلة وقليلة الكلام
وتحزنين فجأة، كالرحلة.

ودودة كطريق عجوز
تسكنُكِ الأصداء والأصوات القديمة
أنا صحوتُ؛ ويحدثُ أن تهاجر وتختبيء
طيورٌ كانت تنام في روحك.

- بابلو نيرودا
لأننا حتّى وإن جربنّا، مرّات
عديدة، الحبَّ؛ السعادةُ يجب
أن تكونَ شيئًا آخر،
شيئًا أكثرَ حُزنًا
من هذا السلام، وهذه المتعة،
هواء كما يكون لحصانِ وحيد القرن أو لجزيرة،
سقوط لا ينتهي في الجمود.

- خوليو كورتاثار.
الحبُ في أحشائي، يعيش ميتًا،
بلا أملٍ، أنتظرُ كلمتك المكتوبة
وأفكّر، مع الزهرة الذي تذبُل،
إن عشتُ بدوني أريد أن أفقدك.

الهواء خالد، الصخرة الخاملة
لا تعرف الظلَ ولا تتجنّبه.
قلبي بالداخل ليس بحاجة
للعسل المتجمّد الذي يسكبه القمر.

ولكنّي عانيتُ من أجلك. مزقّتُ عروقي،
نمرٌ وحمامة، فوق خَصْرِك
يتألمان من اللدغات والزنابق.

املأ، إذن، بالكلمات جنوني
أو دعني أعيش في سكينة
ليلتي - بروحي التي، للأبد، مظلمة.

- لوركا.
سيّداتي وسادتي:
سأطرحُ سؤالا واحدًا:
هل نحن أبناء للشمس أم للأرض؟
لإننا إن كنّا من الأرض فقط،
فلا أرى سببًا ما
يجعلنا نواصل تصوير الفيلم:
أطالب بأن تُرفع الجَلْسَة.

- نيكانور بارّا

Tuesday, February 11, 2014

فيدل كاسترو: مانديلا - كوبا والمعركة الثوريّة


تأملات الرفيق فيدل: لقد مات مانديلا، فلماذا نخفي الحقيقة حول التمييز العنصري ؟

ربما اعتقدت الامبراطورية أن شعبنا لن يوفّي كلمته عندما أكدّنا، في أيّام مرتبكة من القرن الماضي، أن حتّى إن اختفى الإتحاد السوفيييتي، فإن كوبا ستواصل القتال.
اندلعت الحرب العالمية الثانية عندما غزت النازية الفاشية بولندا في الأوّل من سبتمبر عام 1939. وسقط هذ الخبر كالصاعقة على الشعب البطولي لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، والتي ساهمت بـ 27 مليون روح للحفاظ على حياة البشرية من تلك المجزرة الوحشية التي أنهت حياة أكثر من 50 مليون انسان.
من ناحية أخرى، فإن الحرب هي النشاط الوحيد على مر التاريخ التي لم يكن الجنس البشري أبدا قادرًا على تجنبها ، وهو ما دفع أينشتاين لأن يقول: لا أعرف كيف ستكون الحرب العالمية الثالثة ، ولكن الرابعة ستكون بالعصي والحجارة.
الولايات المتحدّة وروسيا، وهما أكبر قوتين موجودتين الآن، لديهما عشرون ألف رأس نووي. يجب أن نعرف جيدا أنه بعد ثلاثة أيام من تولّي جون ف. كينيدي رئاسة بلاده في 20 يناير 1961 ، كانت قاذفة القنابل بي-52 التابعة للولايات المتحدة الأمريكية في رحلة روتينية وعلى متنها اثنين من القنابل الذرية ذات قدرة تدميرية أكبر 260 مرة من تلك المستخدمة في هيروشيما، وأصيبت بعطل عجّل بهبوطها إلى الأرض. في مثل هذه الحالات، تعمل تقنيّات آلية متطورة على تفعيل وسائل تحول دون إشتعال القنابل. سقط الأول على الأرض من دون مخاطر تُذكر، أمّا بالنسبة للقنبلة الثانية، فإن ثلاث من معدّات الوقاية لم تعمل، الرابعة كانت في حالة حرجة، وبالكاد أدّت دورها. القنبلة، بالصدفة، لم تنفجر.
بحسب ما أتذكر، لم يصدم خبر في الحاضر أو في الماضي الرأي العام العالمي مثل وفاة مانديلا. ولم يكن السبب هذه المرّة الثروة والمال، وإنمّا بسبب دفئه الإنساني ونبل مشاعره وأفكاره.
على مدار التاريخ، وحتى قرن ونصف قرن فقط من الآن، وقبل أن تصبح الآلات والروبوتات التي تكلفنا طاقة أقل، هي المسؤولة عن القيام بالمهام المتواضعة ، لم تتواجد أي من المظاهر التي تحرّك الإنسانية اليوم، وتتحكم بشكل لا رحمة فيه حياة البشر كلّهم:  رجالا ونساء، أطفالا وكبار سن، شبابًا وناضجين، ومزارعين وعمّال مصانع، أصحاب العمل اليدويّ والمفكرّين. أصبح الاتجاه السائد هو الاستقرار في المدن، بحيث أصبح خلق فرص العمل وتوفير وسائل النقل و المعيشة الأساسية يتطلب استثمارات ضخمة تأتي على حساب إنتاج الغذاء وغيرها من أشكال الحياة المنطقيّة.
ثلاث قوى عظمى استطاعت الهبوط على سطح القمر. في  نفس اليوم الذي لُفَّ فيه جسد نيلسون مانديلا في علم بلاده ، ودفن في باحة المنزل المتواضع الذي ولد فيه منذ 95 عاما، استطاعت الصين أن تُرسل وحدة متطوّرة هبطت على جزء من الجانب المضيء لقمرنا. تلاقي هذين الحدثين في نفس اليوم كان من قبيل الصدفة البحتة.
يبحث ملايين العلماء المواد والإشعاعات على سطح الأرض وفي الفضاء. وعن طريقهم نعرف أن "تيتان"، أحد أقمار زحل، يحتوي على نفط يعادل أربعين مرّة كل النفط الموجود على كوكبنا منذ أن بدأنا استهلاكه من 125 عامًا، والذي لن يستمر سوى لقرن واحد آخر بالمعدلات الحالية للاستهلاك.
وُلدت روابط المشاعر الأخوية العميقة بين الشعب الكوبي ووطن نيلسون مانديلا من حدث لم يتم حتى ذكره، ولم نقل عنه –نحنُ أو مانديلا- حتّى كلمة واحدة على مدى سنوات عديدة: مانديلا، لأنه كان رسولا للسلام ولا يريد أن يؤذي أحدًا، وكوبا، لأنها لم تقم أبدًا بشيء تسعى من خلاله إلى المجد والهيبة.
عندما انتصرت الثورة في كوبا، كنّا متضامنين مع المستعمرات البرتغالية في أفريقيا من السنوات الأولى. لقد عرضّت حركات التحرر في أفريقيا القوى الاستعمارية والإمبريالية للخطر، خصوصًا أن الحرب العالمية الثانية قد انتهت، وتحررت جمهورية الصين الشعبية - البلد الأكثر اكتظاظا بالسكان في العالم - بعد الانتصار المجيد للثورة الاشتراكية الروسيّة.
هزّت الثورات الاجتماعية الأسس القديمة للحكم والأنظمة. في عام 1960، كان تعداد سكان هذا الكوكب قد وصل إلى 3 مليار نسمة. وبالتوازي، زادت قوة الشركات الكبيرة، والتي تتحكم في معظمها الولايات المتحدة. وأصبحت عملة الولايات المتحدّة، بدعم من احتكار الذهب والصناعة، في مأمن بعيدًا عن جبهات القتال؛ أصبحت هي مالكة الاقتصاد العالمي. وأصدر ريتشارد نيكسون قرارًا بأن الولايات المتحدة لن تغطي الدولارات الموجودة خارج حدودها برصيد من الذهب، وسيطرّت شركات بلاده على الموارد الرئيسية و المواد الخام على كوكب الأرض عن طريق الورق.

حتى الآن، لا يوجد شيئًا لم يكن معروفًا.

ولكن لماذا يتّم إخفاء حقيقة أن نظام الفصل العنصري، والذي عانت بسببه أفريقيا، وغضبت منه الغالبية العظمى من أمم العالم، كان نتيجة لسياسات أوروبا الاستعمارية، وتم تحويله إلى قوة نووية تستخدمها الولايات المتحدة وإسرائيل، في حين تُدان علنًا كوبا، البلد الذي أيد قتال المستعمرات البرتغالية في أفريقيا من أجل استقلالهم؟
أبدًا لم تستلم بلادنا التي تنازلت عنها إسبانيا إلى الولايات المتحدة بعد النضال البطولي لأكثر من 30 سنة، لنظام العبيد الذي فُرض عليها لأكثر من 500 سنة.
في عام 1975، انطلقت بعض القوّات العنصريّة من ناميبيا -المحتلّة من قبل جنوب أفريقيا- مدعومة بدبابات خفيفة بمدافع قطرها 900 مم، واخترقت أكثر من ألف كيلومتر من ضواحي لواندا. لكنّ كتيبة من كتائب القوات الخاصة الكوبية تمّ إرسالها جويّا وبعض تشكيلات من الدبابات السوفيتية والتي كانت موجودة لأسباب أخرى، استطاعت احتواء الأمر. حدث هذا في نوفمبر عام 1975، أي قبل 13 عاما على معركة كويتو كوانافالي .
قلت أننا لم نفعل شيئًا أبدًا بحثًا عن هيبة أو فائدة . وإنما الحقيقة أن مانديلا كان رجلا نزيهًا وثوريًّا أصيلا واشتراكيًا حقيقيًا، تحمّل بحكمّة كبيرة 27 عامًا من السجن الإنفرادي. لم أتوقف أبدًا عن الإعجاب بصدقه وتواضعه وأهليته للاحترام.
وفّت كوبا واجباتها الأمميّة بدقّة. دافعت عن النقاط الرئيسية، ودربّت كلّ عام آلاف المقاتلين الأنجوليين –من أنجولا-  على التعامل مع الأسلحة، وتولّى الاتحاد السوفييتي مهمّة التسليح. ولكن على الرغم من ذلك، فإن وجود مستشار عسكري تابع للجهة المورّدة للمعدّات لم تكن فكرة نستطيع أن نقبلها في تلك الفترة. كان الآلاف من الشباب الأصحاء الأنجوليين يتقدمّون بشكل مستمر بطلبات للاشتراك في الجيش الوليد. لم يكن المستشار الرئيسي في ذلك الوقت زوكوف أو روكوسوفسكي أو مالينوفسكي أو غيرهم الكثير الذي رسموا مجد الاستراتيجية العسكرية السوفيتية. كان الفكرة المسيطرة هي إرسال ألوية قتالية أنجولية مسلّحة جيّدًا إلى الأراضي التي افتُرض أن توجد فيها الحكومة القبلية سافيمبي صاحبة جيش المرتزقة الذي يخدم الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا. كان الأمر مثل إرسال القوّات التي تقاتل في ستالينجراد إلى حدود الكتائب الإسبانية التي أرسلت أكثر من ألف جندي لقتال الإتحاد السوفيتي. كان هذا هو العام الذي يمكن أن تتم فيها عمليات لها هذا الطابع.
وكان العدو يتقدّم، بعد أن ضرب عدة ألوية أنجولية على مقربة من الهدف الذي تم إرسالهم إليه وعلى بعد حوالي 1500 كم من لواندا. من هناك جاؤوا متبوعين بقوّات من جنوب أفريقيا، واتجهّوا نحو كويتو كوانافالي، القاعدة العسكرية القديمة لحلف الناتو وعلى بعد حوالى 100 ​​كيلومترا من أوّل لواء للدبابات الكوبية.
في هذه اللحظة الحرجة، طلب رئيس أنغولا الدعم من القوات الكوبية. نقل لنا رئيس قواتنا في الجنوب الجنرال ليوبولدو ثينترا فرياس هذا الطلب، وهو شيء معتاد.  وكان ردنا أننا سنقدّم هذا الدعم إذا وافقت كل القوات والفرق الأنجولية في هذه الجبهة أن تخضع للقيادة الكوبية في جنوب أنجولا. كان الجميع يفهم أن طلبنا هذا كان يهدف إلى تحويل القاعدة القديمة إلى الشكل المثالي الذي يستطيع أن يضرب القوّات العنصريّة الآتية من جنوب أفريقيا.
 في أقل من 24 ساعة وصلنا من أنجولا قرارها بالموافقة.
تم أخذ قرار بالإرسال الفوري للواء من الدبابات الكوبية إلى تلك المنطقة، وكانت عدّة لواءات أخرى في نفس الطريق نحو الغرب. كان العائق الرئيسي الطين و رطوبة التربة خلال موسم الأمطار، لذا كان علينا أن نفحص كل متر في الأرض لتحاشي الألغام الأرضية. وتم إرسال أفراد إلى كويتو من أجل  تشغيل الدبابات و البنادق.

كان نهر كويتو السريع والقويّ يفصل بين القاعدة والأراضي الواقعة في الشرق، ويصل بينهم فقط جسر متين. هاجم الجيش العنصري القوّات بنفاذ صبر؛ ونجحت طائرة بدون طيّار مليئة بالمفتجرات في تفجير الجسر وجعله غير صالح للاستخدام. وبالنسبة للدبابات الأنجولية المتراجعة، من يستطيع الحركة منهم تم نقله إلى نقطة أخرى في الغرب. الدبابات المتضررة تم دفنها بأسلحتها في اتجاه الشرق؛ وبالإضافة لكميّة كبيرة من الألغام الأرضية ومضادات الدبابات، تحوّل المكان إلى جدار عازل عبارة عن فخ للموت بالنسبة للجانب الآخر من النهر. عندما استأنفت القوات العنصرية تقدمها، وتفكك هذا الجدار، فتحت الدبابات وسلاح المدفعيّة التابعون للواءات الثوريّة النار من مواقع ارتكازهم الواقعة منطقة كويتو.
تم حجز دور خاص للـ ميج -23، والتي برغم سرعتها التي تقترب من ألف كم/الساعة وطيرانها على ارتفاع مائة متر كانت قادرة على نحديد ما إذا كان جندي المدفعيّة أبيض أم أسود، وبالتالي أطلقت النار باستمرار وبكفاءة ضد العدوّ.
عندما بدأ العدو المستهلَك وغير القادر على الحركة في الانسحاب، استعدّت القوّات الثوريّة من أجل المعركة النهائية.
 انتقلت العديد من الألوية الأنغولية و الكوبية بوتيرة سريعة و بمسافات مناسبة إلى الغرب، حيث كانت توجد الطرق الواسعة الوحيدة، والتي كانت قوّات جنوب أفريقيا تبدأ دائمًا الهجوم عبرها ضد أنجولا.على الرغم من ذلك، كان المطار الذي يبعد 300 كم عن حدود ناميبيا محتّل بالكامل من قبل جيش التمييز العنصري.  
في الوقت الذي كان يتم فيه إعادة تنظيم القوّات وإعادة تجهيزها، تم أخذ قرار اضطراري ببناء مدرّج لطائرات الـ ميج-25 على وجه السرعة. كان الطيّارون يستخدمون المعدات الجوية التي تسلمنّاها من الاتحاد السوفييتي في أنجولا، ولم يكن طيّاري أنجولا جاهزين بعد لاستخدامها بشكل صحيح. فقدنا العديد من المعدّات الجويّة بسبب إصابات نجمت أحيانًا عن أخطاء قام بها جنودنا العاملين في سلاح المدفعيّة أو على الأسلحة المضادّة للهجمات الجويّة. جنوب افريقيا لا تزال تحتل جزء من الطريق الرئيسي الذي يصل بين الهضبة الأنجولية وناميبيا. و فوق جسور نهر كونين القويّة، النهر الذي يصل بين جنوب أنغولا و شمال ناميبيا، بدأت في ذلك الوقت مباراة طلقات المدافع والتي ساعدها كونها ذات قُطر 140 مم أن تغطّي مجالا يقترب من 40 كم. كانت المشكلة الرئيسية أن مقاتلي جنوب أفريقيا العنصريين يمتلكون، وفقا لحساباتنا، ما بين 10 و 12 سلاحًا نوويا  تم اختبارها حتى في البحار أو في المناطق الجنوبية المجمدة، وصرّح الرئيس رونالد ريغان باستخدامها. وسلّمتهم إسرائيل المعدّات اللازمة لتفجير الشحنة النووية. وجاء ردنا على هذا هو تنظيم مجموعات قتاليّة من الجنود لا يزيد عددها عن 100 شخص تتحرّك ليلا بمصاحبة السيّارات المجهزّة بمدافع مضادّة للطائرات لتوسيع نطاق أرضنا.
وفقًا لتقارير موثوق بها، فإن الأسلحة النووية التي تمتلكها جنوب أفريقيا لا يمكن تفجيرها عن طريق الطائرات الميراج، كانت تحتاج قاذفات تقيلة من النوع كان-بيرا. ولكن في أي حال، فإن قوات دفاعنا الجوي تشتمل أنواع عديدة متوفرة من الصواريخ التي يمكنها ضرب و تدمير الأهداف المحمولة جوا على مسافات قد تصل إلى عشرات الكيلومترات.  بالإضافة إلى ذلك، قامت مجموعة من المقاتلين الكوبيين والأنجوليين بالسيطرة على مصدر ماء يقع في الأراضي الأنجولية، وبه 80 مليون كم. كان تفجير هذا الموقع يعادل أثر العديد من الأسلحة النووية.
ولكن مع ذلك، استطاع كتيبة من كتائب الجيش جنوب الأفريقي استخدام بعض التيارات المائيّة القويّة لنهر كو-نيني قبل وصولها إلى حدود ناميبيا.
عندما بدأ العنصريون إطلاق مدافع الـ 140 مم في مسرح العمليّات، ضربت الميج – 23 كتائب الجنود البيض بقوّة، وغادر الناجون المكان تاركين ورائهم ملصقات تنقتد حتّى إدارتهم. هذه كانت الحالة عندما تقدمت القوات الكوبية و الأنغولية نحو خطوط العدو .
كنت أعرف أن كاتيوشا بلانكو، مؤلفة العديد من الروايات التاريخية، كانت هناك، جنبًا إلى جنب مع  الصحفيين و المصورين. كان الوضع متوترا ولكن لم يفقد أحد أعصابه .
ثم كان أن جاء الخبر بأن العدو على استعداد للتفاوض.  ونجحت محاولة وقف المغامرة الإمبريالية و العنصرية في القارة التي في 30 عاما سوف يكون عدد سكانها يفوق عدد سكان الصين والهند مجتمعين.
كان دور كوبا في هذه المفاوضات لا يُنسى، خاصّة بعد فشل أخينا وصديقنا نيلسون مانديلا.
أهنئ الرفيق راؤول لأدائه الرائع، وأهنئه خصوصًا على الحزم والكرامة عندما حيّا رئيس حكومة الولايات المتحدّة بلفتة وديّة ولكن قويّة، وقال له بالإنجليزيّة: " سيدي الرئيس، أنا كاسترو".
عندما أعاقت حالتي الصحيّة قدراتي البدنيّة، لم أتردد لحظة في التعبير عن رأيي فيمن يمكنه حمل المسؤولية من بعدي. إن حياة فرد هي مجرّد دقيقة في تاريخ الشعوب، وأعتقد أن من يستطيع أن يتحمّل المسؤولية في هذا الوقت يحتاج إلى الخبرة والقدرة الكافيّة ليواجه عددا لا نهائيا من المتغيرات.
ستحتفظ  الإمبريالية دومًا بعدّة رسائل هدفها إخضاع جزيرتنا، ولكن سيكون عليها أولا أن تبيد سكانها، وتحرمها من الشباب والشابات،  وتقدم الفتات من الأصول والموارد الطبيعية التي تنهبها من العالم.
فلتتناقش الآن أصوات الإمبراطوريّة عن كيف ولماذا ظهر التمييز العنصري.

فيدل كاسترو روز
18
يسمبر 2013
08:35 مساءً

--------
* نُشر المقال بجريدة "جرانما"، الجريدة الرسميّة للجنة المركزيّة بالحزب الشيوعي في كوبا
* نُشرت الترجمة في "أخبار الأدب" في ديسمبر 2012